الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بسم الله الرحمن الرحيم 1- القول في تأويل قوله تعالى: {الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}. {الم} قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل قوله: {الم} بما فيه الكفاية. وقوله: (تَنزيلُ الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ) يقول تعالى ذكره: تنزيل الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، لا شكّ فيه {من ربّ العالمين}: يقول: من ربّ الثقلين: الجنّ والإنس. الم تَنزيلُ الكتابِ لا رَيْبَ فِيه- كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (الم تَنزيلُ الكتابِ لا رَيْبَ فِيه) لا شكّ فيه. وإنما معنى الكلام: أن هذا القرآن الذي أُنزل على محمد لا شكّ فيه أنه من عند الله، وليس بشعر ولا سجع كاهن، ولا هو مما تخرّصه محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كذّب جلّ ثناؤه بذلك قول الذين: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} وقول الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}. {أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يقول تعالى ذكره: يقول المشركون بالله: اختلق هذا الكتاب محمد من قبل نفسه، وتكذّبه، و {أم}- وقوله: {أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يقول تعالى ذكره: يقول المشركون بالله: اختلق هذا الكتاب محمد من قبل نفسه، وتكذّبه، و {أم} هذه تقرير، وقد بيَّنا في غير موضع من كتابنا، أن العرب إذا اعترضت بالاستفهام في أضعاف كلام قد تقدّم بعضه أنه يستفهم بأم. وقد زعم بعضهم أن معنى ذلك: ويقولون. وقال: أم بمعنى الواو، بمعنى بل في مثل هذا الموضع، ثم أكذبهم تعالى ذكره فقال: ما هو كما تزعمون وتقولون من أن محمدا افتراه، بل هو الحقّ والصدق من عند ربك يا محمد، أنزله إليك؛ لتنذر قوما بأس الله وسطوته، أن يحلّ بهم على كفرهم به. {ما أتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ منْ قَبْلكَ} يقول: لم يأت هؤلاء القوم الذين أرسلك ربك يا محمد إليهم، وهم قومه من قريش، نذير ينذرهم.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الْمَعْبُودُ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ أَيُّهَا النَّاسُ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} مِنْ خَلْقٍ {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ بَعْدَ خَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. يَقُولُ: مَا لَكَمَ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَهٌ إِلَّا مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ، وَخَلَقَ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وَقَوْلُهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} يَقُولُ: مَا لَكَمَ أَيُّهَا النَّاسُ دُونَهُ وَلِيٌّ يَلِي أَمْرَكُمْ وَيَنْصُرُكُمْ مِنْهُ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضُرًّا، وَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ لَكُمْ عِنْدَهُ إِنْ هُوَ عَاقَبَكُمْ عَلَى مَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ، يَقُولُ: فَإِيَّاهُ فَاتَّخَذُوا وَلِيًّا، وَبِهِ وَبِطَاعَتِهِ فَاسْتَعِينُوا عَلَى أُمُورِكُمْ؛ فَإِنَّهُ يَمْنَعُكُمْ إِذَا أَرَادَ مَنْعَكُمْ مِمَّنْ أَرَادَكُمْ بِسُوءٍ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِهِ عَمَّا أَرَادَ بِكُمْ هُوَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْهَرُهُ قَاهِرٌ، وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ وَتَتَفَكَّرُونَ أَيُّهَا النَّاسُ، فَتَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ دُونَهُ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ، فَتُفْرِدُوا لَهُ الْأُلُوهَةَ، وَتُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَتَخْلَعُوا مَا دُونَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْر مِنْ أَمْرِ خَلْقِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيَصْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَقَدْرُ ذَلِكَ أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَذَلِكَ أَلْفُ سَنَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} يَعْنِي بِذَلِكَ نُزُولَ الْأَمْرِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ} مِنْ أَيَّامِكُمْ {كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} يَقُولُ: مِقْدَارُ مَسِيرِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مِنْ أَيَّامِكُمْ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ نُزُولُهُ، وَخَمْسُمِائَةٍِ صُعُودُهُ فَذَلِكَ أَلْفُ سَنَةٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ تَنْزِلُ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِكُمْ هَذِهِ، وَهُوَ مَسِيرَةُ أَلْفِ سَنَةٍ. قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ: مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي الْحَارِثِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ} مِنْ أَيَّامِكُمْ هَذِهِ، مَسِيرَةُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ. وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: تَنْحَدِرُ الْأُمُورُ وَتَصْعَدُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، خَمْسُمِائَةٍ حَتَّى يَنْزِلَ، وَخَمْسُمِائَةٍ حَتَّى يَعْرُجَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهِنَّ الْخَلْقَ، كَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مِنْ أَيَّامِكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ: ذَلِكَ مِقْدَارُ الْمَسِيرِ قَوْلُهُ: {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تُعِدُّونَ أَنْتَمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ: السِّتَّةُ الْأَيَّامُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} يَعْنِي: هَذَا الْيَوْمَ مِنَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهِنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ بِالْمَلَائِكَةِ، تَمَّ تَعْرُجُ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: هَذَا فِي الدُّنْيَا تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا غُنْدُرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةُ أَلْفِ سَنَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ذَلِكَ التَّدْبِيرُ الَّذِي دَبَّرَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: ذُكِرَ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: يُقْضَى أَمْرُ كُلِّ شَيْءٍ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَى الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى تَمْضِيَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُقْضَى أَمْرُ كُلِّ شَيْءٍ أَلْفًا، ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا، قَالَ: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} قَالَ: الْيَوْمُ أَنْ يُقَالَ لِمَا يُقْضَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَلْفَ سَنَةٍ: كُنْ فَيَكُونُ، وَلَكِنْ سَمَّاهُ يَوْمًا، سَمَّاهُ كَمَا بَيَّنَّا كُلَّ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ: هُوَ هُوَ سَوَاءٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَى اللَّهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، مِقْدَارُ الْعُرُوجِ أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تُعِدُّونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِقْدَارُ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ حِينَ يُعْرُجُ إِلَيْهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ عُرُوجُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، هَذَامِقْدَارُ ذَلِكَ الْمِعْرَاجِفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَ يَعْرُجُ فِيهِ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي عُرُوجِ ذَلِكَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَنُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مِنْ أَيَّامِكُمْ، خَمْسُمِائَةٍ فِي النُّزُولِ، وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الصُّعُودِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعَانِيهِ، وَأَشْبَهُهَا بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي يَفْعَلُ مَا وَصَفْتُ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، هُوَ (عَالَمُ الْغَيْبِ)، يَعْنِي عَالِمَ مَا يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، فَلَا تُبْصِرُونَهُ مِمَّا تُكِنُّهُ الصُّدُورُ وَتُخْفِيهِ النُّفُوسُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ، (وَالشَّهَادَةُ) يَعْنِي: مَا شَاهَدَتْهُ الْأَبْصَارُ فَأَبْصَرَتْهُ وَعَايَنَتْهُ وَمَا هُوَ مَوْجُودٌ (الْعَزِيزُ) يَقُولُ: الشَّدِيدُ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ، وَأَشْرَكَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ (الرَّحِيمُ) بِمَنْ تَابَ مِنْ ضَلَالَتِهِ، وَرَجَعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، أَنْ يُعَذِّبَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} بِسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَعَامَّةُ الْكُوفِيِّينَ {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} بِفَتْحِ اللَّامِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحْكَمُ خَلْقَهُ، وَأَحْكَمُ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَحْكَمَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِشْكَابُ قَالَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ خَصِيفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قَالَ: أَمَا إِنَّ اسْتَ الْقِرْدِ لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ، وَلَكِنْ أَحْكَمَ خَلْقَهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو النَّضْرِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدَّبُ، عَنْ خَصِيفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قَالَ: أَمَا إِنَّ اسْتَ الْقِرْدِ لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ وَلَكِنَّهُ أَحْكَمَهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قَالَ: أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، قَالَ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ}: أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: الَّذِي حَسَّنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} حَسَّنَ عَلَى نَحْوِ مَا خَلَقَ. وَذُكِرَ عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ مِثْلُ {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ: فَلَمْ يَجْعَلْ خَلْقَ الْبَهَائِمِ فِي خَلْقِ النَّاسِِ، وَلَا خَلْقَ النَّاسِ فِي خَلْقِ الْبَهَائِمِ وَلَكِنْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَعْلَمَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، كَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا تَأْوِيلَ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّهُ أَلْهَمَ خَلْقَهُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: (أَحْسَنَ) إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ يُحْسِنُ كَذَا، إِذَا كَانَ يَعْلَمُهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ خَصِيفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قَالَ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، قَالَ: الْإِنْسَانَ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْفَرَسَ لِلْفَرَسِ، وَالْحِمَارَ لِلْحِمَارِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْخَلْقُ وَالْكُلُّ مَنْصُوبَانِ بِوُقُوعِ أَحْسَنَ عَلَيْهِمَا. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} بِفَتْحِ اللَّامِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أَحْكَمَ وَأَتْقَنَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنًى لِذَلِكَ إِذْ قُرِئَ كَذَلِكَ إِلَّا أَحَدَ وَجْهَيْنِ: إِمَّا هَذَا الَّذِي قُلْنَا مِنْ مَعْنَى الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، أَوْ مَعْنَى التَّحْسِينِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي خُلُقِهِ مَا لَا يَشُكُّ فِي قُبْحِهِ وَسَمَاجَتِهِ، عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِهِ أَنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ مَا خَلَقَ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَحْكَمَهُ وَأَتْقَنُ صَنْعَتَهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ بِتَسْكِينِ اللَّامِ، فَإِنَّ أَوْلَى تَأْوِيلَاتِهِ بِهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَعْلَمَ وَأَلْهَمَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، هُوَ أَحْسَنُهُمْ، كَمَا قَالَ: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعَانِيهِ. وَأَمَّا الَّذِي وَجَّهَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: الَّذِي أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْخَلْقَ نَصْبًا بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقًا مِنْهُ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ، وَيُوَجِّهُهُ إِلَى أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَظَعْنِـي إلَيْـكَ لِلَّيْـلِ حِضْنَيْهِ أنَّنِـي *** لِتِلْـكَ إِذَا هَابَ الهِدَانُ فَعُـولُ يَعْنِي: وَظَعْنِي حِضْنَيِ اللَّيْلِ إِلَيْكَ؛ وَنَظِيرُ قَوْلِ الْآخَرِ: كـأنَّ هِنْـدًا ثَنَايَاهَا وَبَهْجَتَهَـا *** يَوْمَ الْتَقَيْنَا عَـلَى أدْحَالِ دَبَّابِ أَيْ: كَأَنَّ ثَنَايَا هِنْدٍ وَبَهْجَتِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَبَدَأَ خَلْقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} يَعْنِي: ذُرِّيَّتُهُ (مِنْ سُلَالَةٍ)، يَقُولُ: مِنَ الْمَاءِ الَّذِي انْسَلَّ فَخَرَجَ مِنْهُ. وَإِنَّمَا يَعْنِي مِنْ إِرَاقَةٍِ مِنْ مَائِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَجَاءَتْ بِهِ عَضْـبَ الْأَدِيمِ غَضَنْفَرًا *** سُـلالَةَ فَـرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينٍِ وَقَوْلُهُ: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} يَقُولُ: مِنْ نُطْفَةٍ ضَعِيفَةٍ رَقِيقَةٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} وَهُوَ خَلْقُ آدَمَ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ: أَيْ ذَرِّيَّتَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَالسُّلَالَةُ هِيَ: الْمَاءُ الْمَهِينُ الضَّعِيفُ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمُنْهَالِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (مِنْ سُلَالَةٍ) قَالَ: صَفْوُ الْمَاءِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} قَالَ: ضَعِيفٌ نُطْفَةُ الرَّجُلِ، وَمَهِينٌ: فَعِيلٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَهُنَ فُلَانٌ، وَذَلِكَ إِذَا زَلَّ وَضَعُفَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ سَوَّى الْإِنْسَانَ الَّذِي بَدَأَ خَلْقَهُ مِنْ طِينٍ خَلْقًا سَوِيًّا مُعْتَدِلًا {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} فَصَارَ حَيًّا نَاطِقًا {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} يَقُولُ: وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ رَبُّكُمْ بِأَنْ أَعْطَاكُمُ السَّمْعَ تَسْمَعُونَ بِهِ الْأَصْوَاتَ، وَالْأَبْصَارَ تُبَصِرُونَ بِهَا الْأَشْخَاصَ، وَالْأَفْئِدَةَ تَعْقِلُونَ بِهَا الْخَيْرَ مِنَ السُّوءِ، لِتَشْكُرُوهُ عَلَى مَا وَهَبَ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} يَقُولُ: وَأَنْتُمْ تَشْكُرُونَ قَلِيلًا مِنَ الشُّكْرِ رَبَّكُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ: صَارَتْ لُحُومُنَا وَعِظَامُنَا تُرَابًا فِي الْأَرْضِ وَفِيهَا لُغَتَانِ: ضَلَلْنَا، وَضَلِلْنَا. بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا، وَالْقِرَاءَةُ عَلَى فَتْحِهَا وَهِيَ الْجُوَدَاء، وَبِهَا نَقْرَأُ. وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: (أئِذَا صَلَلْنَا) بِالصَّادِّ، بِمَعْنَى: أَنْتَنَّا، مِنْ قَوْلِنَا: صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ إِذَا أَنْتَنَ. وَإِنَّمَا عَنَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِقَوْلِهِمْ: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ: إِذَا هَلَكَتْ أَجْسَادُنَا فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى خَفِيَ فِيمَا غَلَبَ، فَإِنَّهُ قَدْ ضَلَّ فِيهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: قَدْ ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ: إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَتَبَيَّنَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ لِجَرِيرٍ: كُـنْتَ القَـذَى فـي مَـوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ *** قَـذَفَ الأَتِـيُّ بِـه فَضَـلَّ ضَـلَالَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: أئذا هَلَكْنَا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} هَلَكْنَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ: قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَنُبْعَثُ خَلْقًا جَدِيدًا؟ يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} قَالَ: {قَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أئنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}. وَقَوْلُهُ: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا بِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ جُحُودُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ؛ حَذَّرًا لِعِقَابِهِ، وَخَوْفَ مُجَازَاتِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَهُمْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَجْحَدُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ فِي الْمَعَادِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ: {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}، يَقُولُ: يَسْتَوْفِي عَدَدَكُمْ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزُ: إِنَّ بَنِي الْأَدْرَمِ لَيْسُوا مِـنْ أحَـدْ *** وَلَا تَوَفَّاهُمْ قُرَيْشٌ فِـي العَدَدْ {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجِعُونَ} يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ قَبْضِ مَلَكِ اَلْمَوْتِ أَرْوَاحَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُرَدُّونَ أَحْيَاءَ كَهَيْئَتِكُمْ قَبْلَ وَفَاتِكُمْ فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} قَالَ: مَلَكُ الْمَوْتِ يَتَوَفَّاكُمْ، وَمَعَهُ أَعْوَانٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} قَالَ: حَوَيْتُ لَهُ الْأَرْضَ فَجَعَلْتُ لَهُ مِثْلَ الطَّسْتِ يَتَنَاوَلُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} إِذْ هُمْ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ حَيَاءً مِنْ رَبِّهِمْ. لِلَّذِي سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ مَعَاصِيهِ فِي الدُّنْيَا، يَقُولُونَ: يَا {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} مَا كُنَّا نُكَذِّبُ بِهِ مِنْ عِقَابِكَ أَهْلَ مَعَاصِيكَ (وَسَمِعْنَا) مِنْكَ تَصْدِيقَ مَا كَانَتْ رُسُلُكَ تَأْمُرُنَا بِهِ فِي الدُّنْيَا (فَارْجِعْنَا) يَقُولُ: فَارْدُدْنَا إِلَى الدُّنْيَا نَعْمَلُ فِيهَا بِطَاعَتِكَ، وَذَلِكَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ {إِنَّا مُوقِنُونَ} يَقُولُ: إِنَّا قَدْ أَيْقَنَّا الْآنَ مَا كُنَّا بِهِ فِي الدُّنْيَا جُهَّالًا مِنْ وَحْدَانِيَّتِكَ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُعْبَدَ سِوَاكَ، وَلَا يَنْبَغِيَ أَنْ يَكُونَ رَبٌّ سِوَاكَ، وَأَنَّكَ تُحْيِي وَتُمِيتُ، وَتَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَالْفَنَاءِ وَتَفْعَلُ مَا تَشَاءُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ قَوْلَهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قَالَ: قَدْ حَزِنُوا وَاسْتَحْيَوْا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَلَوْ شِئْنَا) يَا مُحَمَّدُ (لَآتَيْنَا) هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مَنْ قَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ (هُدَاهَا) يَعْنِي: رُشْدَهَا وَتَوْفِيقَهَا لِلْإِيمَانِ بِاللَّهِ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} يَقُولُ: وَجَبَ الْعَذَابُ مِنِّي لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} يَعْنِي: مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ مِنْهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} قَالَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا، لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً، فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ، {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} حَقَّ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ إِذَا هُمْ دَخَلُوا النَّارَ: ذُوقُوا عَذَابَ اللَّهِ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي الدُّنْيَا، (إِنَّا نَسِينَاكُمْ) يَقُولُ: إِنَّا تَرَكْنَاكُمُ الْيَوْمَ فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} يَقُولُ: يُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا: ذُوقُوا عَذَابًا تَخْلُدُونَ فِيهِ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ (بِمَا كُنْتُمْ) فِي الدُّنْيَا (تَعْمَلُونَ) مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} قَالَ: نَسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَمَّا الشَّرُّ فَلَمْ يَنْسَوْا مِنْهُ. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} يَقُولُ: تَرَكْنَاكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا يَصَّدِّقُ بِحُجَجِنَا وَآيَاتِ كِتَابِنَا إِلَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا وَوُعِظُوا (خَرُّوا) لِلَّهِ (سُجَّدًا) لِوُجُوهِهِمْ، تَذَلُّلًا لَهُ، وَاسْتِكَانَةً لِعَظَمَتِهِ، وَإِقْرَارًا لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يَقُولُ: وَسَبَّحُوا اللَّهَ فِي سُجُودِهِمْ بِحَمْدِهِ، فَيُبَرِّئُونَهُ مِمَّا يَصِفُهُ أَهْلُ الْكُفْرِ بِهِ، وَيُضِيفُونَ إِلَيْهِ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} يَقُولُ: يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ السُّجُودِ لَهُ وَالتَّسْبِيحِ، لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنِ التَّذَلُّلِ لَهُ وَالِاسْتِكَانَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: تَتَنَحَّى جُنُوبُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَتَهُمْ، وَتَرْتَفِعُ مِنْ مَضَاجِعِهِمُ الَّتِي يَضْطَجِعُونَ لِمَنَامِهِمْ، وَلَا يَنَامُونَ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} فِي عَفْوِهِ عَنْهُمْ، وَتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُؤَدُّونَ مِنْهُ حُقُوقَ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ فِيهِ. وَتَتَجَافَى: تَتَفَاعَلُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ: النَّبْوُ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: وَصَاحِبي ذَاتُ هِبَابٍ دَمْشَـقُ *** وَابْنُ مِلاطٍ مُتجَافٍ أرْفَـقُ يَعْنِي: أَنَّ كَرَمَهَا سَجِيَّةً عَنِ ابْنِ مِلَاطٍ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِتَجَافِي جُنُوبِهِمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ؛ لِتَرْكِهِمْ الِاضْطِجَاعَ لِلنَّوْمِ شَغْلًا بِالصَّلَاةِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي وَصَفَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَنَّ جُنُوبَهُمْ تَتَجَافَى لَهَا عَنِ الْمُضْطَجَعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الصَّلَاةُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَصِلُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عَرُوبَةَ، قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ، قَالَ أَنَسٌ فِي قَوْلِهِ: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قَالَ: كَانُوا يَتَنَفَّلونَ فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَكَذَلِكَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: ثَنَا الْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ الرَّاسِبِيُّ، قَالَ: ثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: كَانُوا يَتَطَوَّعُونَ فِيمَا بَيْنُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَصَلَاةِ الْعِشَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهَا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عَطَاءٍ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: عَنِ الْعَتَمَةِ. وَذُكِرَ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: الْعَتَمَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لِانْتِظَارِ صَلَاةِ الْعَتَمَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ عَبَدَِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} نَزَلَتْ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُدْعَى الْعَتَمَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهَا قِيَامَ اللَّيْلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: قِيَامُ اللَّيْلِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُتَهَجِّدُونَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} يَقُومُونَ يُصَلُّونَ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هَذِهِ صِفَةُ قَوْمٍ لَا تَخْلُو أَلْسِنَتُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}: وَهُمْ قَوْمٌ لَا يَزَالُونَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، إِمَّا فِي صَلَاةِ، وَإِمَّا قِيَامًا، وَإِمَّا قُعُودًا، وَإِمَّا إِذَا اسْتَيْقَظُوا مِنْ مَنَامِهِمْ، هُمْ قَوْمٌ لَا يَزَالُونَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، يَقُولُ: تَتَجَافَى لِذِكْرِ اللَّهِ، كُلَّمَا اسْتَيْقَظُوا ذَكَرُوا اللَّهَ، إِمَّا فِي الصَّلَاةِ، وَإِمَّا فِي قِيَامٍ، أَوْ فِي قُعُودٍ، أَوْ عَلَى جُنُوبِهِمْ، فَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِأَنَّ جُنُوبَهُمْ تَنْبُو عَنْ مَضَاجِعِهِمْ، شَغَلَا مِنْهُمْ بِدُعَاءِ رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ خَوْفًا وَطَمَعًا، وَذَلِكَ نُبُوُّ جُنُوبِهِِمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ لَيْلًا؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ وَصْفِ الْوَاصِفِ رَجُلًا بِأَنَّ جَنْبَهُ نَبَا عَنْ مَضْجَعِهِ، إِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ مِنْهُ لَهُ بِأَنَّهُ جَفَا عَنِ النَّوْمِ فِي وَقْتِ مَنَامِ النَّاسِ الْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ اللَّيْلَ دُونَ النَّهَارِ، وَكَذَلِكَ تَصِفُ الْعَرَبُ الرَّجُلَ إِذَا وَصَفَتْهُ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَةِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَبِيـتُ يُجَافِي جَنْبَـهُ عَـنْ فِراشِـهِ *** إِذَا اسْـتَثْقَلَتْ بالمُشْـرِكِينَ المَضَـاجِعُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يُخَصِّصْ فِي وَصْفِهِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِالَّذِي وَصْفَهُمْ بِهِ مِنْ جَفَاءِ جُنُوبِهِمْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ مِنْ أَحْوَالِ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِهِ حَالًا وَوَقْتًا دُونَ حَالٍ وَوَقْتٍ، كَانَ وَاجِبًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَنْ صَلَّى مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، أَوِ انْتَظَرَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، أَوْ قَامَ اللَّيْلَ أَوْ بَعْضَهُ، أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، أَوْ صَلَّى الْعَتَمَةَ مِمَّنْ دَخَلَ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} لِأَنَّ جَنْبَهُ قَدْ جَفَا عَنْ مَضْجَعِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي قَامَ فِيهَا لِلصَّلَاةِ قَائِمًا صَلَّى أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ، أَوْ قَاعِدًا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونُ مُضْطَجِعًا، وَهُوَ عَلَى الْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ قَادِرٌ، غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ تَوْجِيهَ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ قِيَامُ اللَّيْلِ أَعْجَبُ إِلَيَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعَانِيهِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ، وَبِهِ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَقِيَامُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ" وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ". حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ وَالْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ: ثَنَا آدَمُ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: ثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «"إِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِأَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ" ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: ثَنَا عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: "قِيَامُ الْعَبْدِ مِنَ اللَّيْلِ". حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي يَحْيَى بَائِعِ الْقَتِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى تَحَادَرَتْ دُمُوعُهُ، فَقَالَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} الْآيَةَ، فَإِنَّ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قَالَ: خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَطَمَعًا فِي رَحْمَةِ اللَّهِ، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسُ ذِي نَفْسٍِ مَا أَخْفَى اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، مِمَّا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ فِي جِنَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يَقُولُ: ثَوَابًا لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْمَلُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا: لَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لِلَّذِينِ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَمَا لَمْ يَسْمَعْهُ مَلِكٌ مُقَرَّبٌ. قَالَ: وَنَحْنُ نَقْرَؤُهَا: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. حَدَّثَنَا خَلَّادٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينِ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فِي الْقُرْآنِ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَبَّأَ لَهُمْ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، قَالَ سُفْيَانُ: فِيمَا عَلِمَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الشَّكِّ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ-يَعْنِي- اللَّهَ: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ نَاظِرٍ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْلَمُونَ} ". حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ صَلْتٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْحَارِثِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ فِي التَّوْرَاةِ لِلَّذِينِ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ مِنَ الْكَرَامَةِ، مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَإِنَّهُ لَفِي الْقُرْآنِ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيبٍ، قَالَ: ثَنَا الْأَشْجَعِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبْجَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: إِنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ أَبْخَسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا حَظًّا، فَقِيلَ لَهُ: رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ وَقَدْ دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلْ، فَيَقُولُ: أَيْنَ وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ: اعْدُدْ أَرْبَعَةَ مُلُوكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ لَك مِثْلَ الَّذِي كَانَ لَهُمْ، وَلَك أُخْرَى شَهْوَةُ نَفْسِكَ، فَيَقُولُ: أَشْتَهِي كَذَا وَكَذَا، وَأَشْتَهِي كَذَا، وَقَالَ: لَكَ أُخْرَى، لَكَ لَذَّةُ عَيْنِكَ، فَيَقُولُ: أَلَذُّ كَذَا وَكَذَا، فَيُقَالُ: لَكَ عَشْرَةُ أَضْعَافٍِ مَثَلُ ذَلِكَ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْجَنَّةِِ فِيهَا حَظًّا، فَقَالَ: ذَاكَ شَيْءٌ خَتَمْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَإِنَّهُ فِي الْقُرْآنِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّوْسِيُّ، قَالَ: ثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَحَدَّثَنِي بِهِ القُرْقُسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُطَرَّفِ بْنِ طَرِيفٍ، وَابْنِ أَبْجَرَ، سَمِعْنَا الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «"إِنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ: أَيْ رَبِّ، أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَدْنَى مَنْزِلَةً؟ قَالَ: رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلْ. فَيَقُولُ: كَيْفَ أَدْخُلُ وَقَدْ نَزَلُوا مَنَازِلَهُمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلَ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: بَخٍ أَيْ رَبِّ قَدْ رَضِيتُ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ لَكَ هَذَا وَمِثْلَهُ وَمِثْلَهُ وَمِثْلَهُ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ أَيْ رَبِّ رَضِيتُ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ لَكَ هَذَا وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ أَيْ رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، قَالَ: فَقَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ، وَأَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْفَعُ مَنْزِلَةً، قَالَ: إِيَّاهَا أَرَدْتُ، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْهُمْ، غَرَسْتُ لَهُمْ كَرَامَتِي بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمُنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وَكَانَ عَرْشُ اللَّهِ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ جَنَّةً، ثُمَّ اتَّخَذَ دُونَهَا أُخْرَى، ثُمَّ أَطْبَقَهَا بِلُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} قَالَ: وَهِيَ الَّتِي لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ، أَوْ قَالَ: هُمَا الَّتِي لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِي لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَالَ: وَهِيَ الَّتِي لَا تَعْلَمُ الْخَلَائِقُ مَا فِيهَا أَوْ مَا فِيهِمَا يَأْتِيهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مِنْهَا أَوْ مِنْهُمَا تُحْفَةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، قَالَ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ الْهَوْزَنِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ: الْجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ، أَوَّلُهَا دَرَجَةٌ فِضَّةٌ، أَرْضُهَا فِضَّةٌ، وَمَسَاكِنُهَا فِضَّةٌ، وَآنِيَتُهَا فِضَّةٌ، وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ. وَالثَّانِيَةُ ذَهَبٌ، وَأَرْضُهَا ذَهَبٌ، وَمَسَاكِنُهَا ذَهَبٌ، وَآنِيَتُهَا ذَهَبٌ، وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ. وَالثَّالِثَةُ لُؤْلُؤٌ، وَأَرْضُهَا لُؤْلُؤٌ، وَمَسَاكِنُهَا لُؤْلُؤٌ، وَآنِيَتُهَا لُؤْلُؤٌ، وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ. وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْهُ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْهُ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيبٍ، قَالَ: ثَنَا الْمُحَارِبِيُّ وَعَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ، قَالَ اللَّهُ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ". حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيبٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ، مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَمِنْ بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَقْرَؤُهَا: {قُرَّاتِ أَعْيُنٍ}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنِ الْغِطْرِيفِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ، قَالَ: "يُؤْتَي بِحَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَسَيِّئَاتِهِ، فَيَنْقُصُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ بَقِيَتْ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَسَّعَ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ"، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى يَزْدَادَ، فَحَدَّثَ بِمِثْلِ هَذَا؛ قَالَ: قُلْتُ: فَأَيْنَ ذَهَبَتِ الْحَسَنَةُ؟ قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}، قُلْتُ: قَوْلُهُ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} قَالَ: الْعَبْدُ يَعْمَلُ سِرًّا أَسَرَّهُ إِلَى اللَّهِ لَمْ يُعْلِمْ بِهِ النَّاسُ، فَأَسَرَّ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قُرَّةَ عَيْنٍ. حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَلَّى بْنِ أَسَدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَقَبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي أَبُو صَخْرٍ، أَنْ أَبَا حَازِمٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا وَصَفَ فِيهِ الْجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: "فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} إِلَى قَوْلِهِ: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «"قَالَ رَبُّكُمْ: أَعْدَدْتُ لِعَبَّادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"». حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ رَبِّهِ، «"قَالَ رَبُّكُمْ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشِرٍ"». حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ عَمْرٍِو، عَنِ الْحَسَنِ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} قَالَ: أَخْفَوْا عَمَلًا فِي الدُّنْيَا، فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِأَعْمَالِهِمْ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ حَمَّادٌ: أَحْسَبُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يَنْعَمْ وَلَا يَبْؤُسْ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ، فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ، وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: (أُخْفِيَ) بِضَمِّ الْأَلْفِ وَفَتْحِ الْيَاءِ بِمَعْنَى فُعِلَ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: {أُخْفِيَ لَهُمْ} بِضَمِّ الْأَلْفِ وَإِرْسَالِ الْيَاءِ، بِمَعْنَى أَفْعَلُ، أُخْفِي لَهُمْ أَنَا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَخْفَاهُ فَهُوَ مَخْفِيٌّ، وَإِذَا أُخْفِيَ فَلَيْسَ لَهُ مُخْفٍ غَيْرُهُ، و "مَا" فِي قَوْلِهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} فَإِنَّهَا إِذَا جُعِلَتْ بِمَعْنَى الَّذِي كَانَتْ نَصْبًا بِوُقُوعٍ "تَعْلَمُ" عَلَيْهَا كَيْفَ قَرَأَ الْقَارِئ "أُخْفِيَ"، وَإِذَا وُجِّهَتْ إِلَى مَعْنَى أَيٍّ كَانَتْ رَفْعًا إِذَا قُرِئَ أُخْفِىَ بِنَصْبِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْأَلْفِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَإِذَا قُرِئَ "أُخْفِيَ" بِإِرْسَالِ الْيَاءِ كَانَتْ نَصْبًا بِوُقُوعٍ أُخْفِي عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَهَذَا الْكَافِرُ الْمُكَذِّبُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ، الْمُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، كَهَذَا الْمُؤْمِنِ بِاللَّهِ، وَالْمُصَدِّقِ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، الْمُطِيعِ لَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، كَلَّا لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ يَقُولُ: لَا يَعْتَدِلُ الْكُفَّارُ بِاللَّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ عِنْدَهُ، فِيمَا هُوَ فَاعِلٌ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ: (لَا يَسْتَوُونَ) فَجَمْعٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ اثْنَيْنِ: مُؤْمِنًا وَفَاسِقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِالْمُؤْمِنِ: مُؤْمِنًا وَاحِدًا، وَبِالْفَاسِقِ: فَاسِقًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ: جَمِيعُ الْفُسَّاقِ، وَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ. فَإِذَا كَانَ الِاثْنَانِ غَيْرَ مَصْمُودٍ لَهُمَا ذَهَبَتْ لَهُمَا الْعَرَبُ مَذْهَبَ الْجَمْعِ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: ثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عَقَبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ كَانَ بَيْنَ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَلَيٍّ كَلَامٌ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَقَبَةَ: أَنَا أَبْسَطُ مِنْكَ لِسَانًا، وَأَحَدُّ مِنْكَ سِنَانًا، وَأَرُدُّ مِنْكَ لِلْكَتِيبَةِ، فَقَالَ عَلَيٌّ: اسْكُتْ، فَإِنَّكَ فَاسِقٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: (بِهِ تُكَذِّبُونَ). حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا اسْتَوُوا فِي الدُّنْيَا، وَلَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَمَّا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى: يَعْنِي بَسَاتِينُ الْمَسَاكِنِ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا فِي الْآخِرَةِ وَيَأْوُونَ إِلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: {نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يَقُولُ: نُزُلًا بِمَا أَنْزَلَهُمُوهَا جَزَاءً مِنْهُ لَهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا بِطَاعَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ، وَفَارَقُوا طَاعَتَهُ {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} يَقُولُ: فَمَسَاكِنُهُمُ الَّتِي يَأْوُونَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ النَّارُ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ} فِي الدُّنْيَا (تُكَذِّبُونَ) أَنَّ اللَّهَ أَعَدَّهَا لِأَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} أَشْرَكُوا {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وَالْقَوْم مُكَذِّبُونَ كَمَا تَرَوْنَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى الْعَذَابِ الْأَدْنَىالَّذِي وَعَدَ اللَّهُ أَنْ يُذِيقَهُ هَؤُلَاءِ الْفَسَقَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} يَقُولُ: مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَأَسْقَامُهَا وَبَلَاؤُهَا مِمَّا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ حَتَّى يَتُوبُوا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قَالَ: الْعَذَابُ الْأَدْنَى بَلَاءُ الدُّنْيَا، قِيلَ: هِيَ الْمَصَائِبُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} قَالَ: الْمُصِيبَاتُ فِي الدُّنْيَا قَالَ: وَالدُّخَانُ قَدْ مَضَى، وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: تَرَكَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، يَحْيَى بْنُ الْجَزَّارِ، نُقْصَانُ رَجُلٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عُرْوَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قَالَ: مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَاللُّزُومُ وَالْبَطْشَةُ، أَوْ الدُّخَانُ: شَكَّ شُعْبَةُ فِي الْبَطْشَةِ أَوْ الدُّخَانِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: الْمُصِيبَاتُ وَاللُّزُومُ وَالْبَطْشَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: الْمُصِيبَاتُ يُصَابُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا: الْبَطْشَةُ، وَالدُّخَان، وَاللُّزُومُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} قَالَ: الْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ: ثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قَالَ: الْمُصِيبَاتُ فِي دُنْيَاهُمْ وَأَمْوَالِهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَهُ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلَهُ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى}: أَيْ مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} قَالَ: أَشْيَاءٌ يُصَابُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهَا الْحُدُودَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قَالَ: الْحُدُودُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهَا الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ، قَالَ: وَقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قَالَ: الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ صَبْرًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قَالَ: الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ، كُلُّ شَيْءٍ وَعَدَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى إِنَّمَا هُوَ السَّيْفُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قَالَ: الْقَتْلُ وَالْجُوعُ لِقُرَيْشٍ فِي الدُّنْيَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ مُجَاهِدٌ يُحَدِّثُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} يَوْمُ بَدْرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ سُنُونَ أَصَابَتْهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قَالَ: سُنُونَ أَصَابَتْهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، مَثَلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ: عَذَابَ الْقَبْرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قَالَ: الْأَدْنَى فِي الْقَبُورِ وَعَذَابُ الدُّنْيَا. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ عَذَابُ الدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} قَالَ: الْعَذَابُ الْأَدْنَى: عَذَابُ الدُّنْيَا. وَأُولَى الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَ هَؤُلَاءِ الْفَسَقَةَ الْمُكَذِّبِينَ بِوَعِيدِهِ فِي الدُّنْيَا الْعَذَابَ الْأَدْنَى، أَنْ يُذِيقَهُمُوهُ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، وَالْعَذَابُ: هُوَ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنْ بَلَاءٍ أَصَابَهُمْ، إِمَّا شِدَّةٌ مِنْ مَجَاعَةٍ، أَوْ قَتْلٍ، أَوْ مَصَائِبَ يُصَابُونَ بِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى، وَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، إِذْ وَعَدَهُمْ ذَلِكَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِنَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ دُونَ نَوْعٍ، وَقَدْ عَذَّبَهُمْ بِكُلِّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْجُوعِ وَالشَّدَائِدِ وَالْمَصَائِبِ فِي الْأَمْوَالِ، فَأَوْفَى لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} يَقُولُ: قِيلَ الْعَذَابُ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قَالَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ: ثَنَا إِسْرَائِيل، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَثَلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} يَوْمُ الْقِيَامَةِ فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} يَوْمُ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} يَوْمُ الْقِيَامَةِ حَدَّثَ بِهِ قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهَبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قَالَ: الْعَذَابُ الْأَكْبَرُ: عَذَابُ الْآخِرَة. وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يَقُولُ: كَيْ يَرْجِعُوا وَيَتُوبُوا بِتَعْذِيبِهِمُ الْعَذَابَ الْأَدْنَى. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ عَنْ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قَالَ: يَتُوبُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قَالَ: يَتُوبُونَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: أَيْ يَتُوبُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَيُّ النَّاسِ أَظْلَمُ لِنَفْسِهِ مِمَّنْ وَعَظَهُ اللَّهُ بِحُجَجِهِ، وَآيِ كِتَابِهِ، وَرُسُلِهِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَمْ يَتَّعِظْ بِمَوَاعِظِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَكْبَرَ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} يَقُولُ: إِنَّا مِنَ الَّذِينَ اكْتَسَبُوا الْآثَامَ، وَاجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ مُنْتَقِمُونَ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَنَى بِالْمُجْرِمِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَهْلَ الْقَدَرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَائِلُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَفِيحٍ، عَنْ يَزِيدِ بْنِ رُفَيْعٍ، قَالَ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} هُمْ أَصْحَابُ الْقَدَرِ، ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالَ: ثَنَا مَرْوَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَائِلُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ سَفِيحٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُفَيْعٍ بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: ثُمَّ قَرَأَ وَائِلُ بْنُ دَاوُدَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَّيَّةَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «"ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ أَجْرَمَ: مَنِ اعْتَقَدَ لِوَاءً فِي غَيْرِ حَقٍّ، أَوْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، أَوْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ يَنْصُرُهُ فَقَدْ أَجْرَمَ. يَقُولُ اللَّهُ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ، كَمَا آتَيْنَاكَ الْفَرْقَانَ يَا مُحَمَّدُ {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} يَقُولُ: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَائِهِ، فَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ أَنَّكَ لَقِيتَهُ، أَوْ تَلْقَاهُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِكَ، وَبِذَلِكَ جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحَيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ-يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ- قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُرِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا آدَمَ طِوَالًا جَعْدًا، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطَ الرَّأْسِ وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ "» فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ، {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} أَنَّهُ قَدْ رَأَى مُوسَى، وَلَقِيَ مُوسَى لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلَنَا مُوسَى هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، يُعْنَى: رَشَادًا لَهُمْ يَرْشُدُونَ بِاتِّبَاعِهِ، وَيُصِيبُونَ الْحَقَّ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَالِائْتِمَامِ بِقَوْلِهِ. وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ مُوسَى هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلَنَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَئِمَّةً، وَهِيَ جَمْعُ إِمَامٍ، وَالْإِمَامُ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَأُرِيدَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ جَعَلَ مِنْهُمْ قَادَةً فِي الْخَيْرِ، يُؤْتَمُّ بِهِمْ، وَيُهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} قَالَ: رُؤَسَاءُ فِي الْخَيْرِ. وَقَوْلُهُ: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَهْدُونَ أَتْبَاعَهَمْ وَأَهْلَ الْقَبُولِ مِنْهُمْ بِإِذْنِنَا لَهُمْ بِذَلِكَ، وَتَقْوِيَتِنَا إِيَّاهُمْ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {لَمَّا صَبَرُوا} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ {لَمَّا صَبَرُوا} بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، بِمَعْنَى: إِذْ صَبَرُوا، وَحِينَ صَبَرُوا، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (لِمَا) بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ بِمَعْنَى: لِصَبْرِهِمْ عَنِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، وَاجْتِهَادِهِمْ فِي طَاعَتِنَا، وَالْعَمَلِ بِأَمْرِنَا، وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (بِمَا صَبَرُوا) وَمَا إِذَا كَسَرَتْ اللَّامَ مِنْ (لِمَا) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَإِذَا فَتَحْتَ اللَّامَ وَشَدَّدْتَ الْمِيمَ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ أَدَاةٌ. وَالْقَوْلُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَامَّةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَا قُرِئَ ذَلِكَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَجَعْلِنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ أَتْبَاعَهُمْ بِإِذْنِنَا إِيَّاهُمْ، وَتَقْوِيَتِنَا إِيَّاهُمْ عَلَى الْهِدَايَةِ، إِذْ صَبَرُوا عَلَى طَاعَتِنَا، وَعَزَفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا. وَإِذَا قُرِئَ بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى مَا قَدْ وَصَفْنَا. وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: قَالَ أَبِي، سَمِعْنَا فِي {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} قَالَ: عَنِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} يَقُولُ: وَكَانُوا أَهْلَ يَقِينٍ بِمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ حُجَجُنَا، وَأَهْلَ تَصْدِيقٍ بِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، وَإِيمَانٍ بِرُسُلِنَا، وَآيَاتِ كِتَابِنَا وَتَنْزِيلِنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنْ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ هُوَ يُبَيِّنُ جَمِيعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا يَخْتَلِفُونَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ دِيْنِهِمْ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ بِقَضَاءٍ فَاصِلٍ بِإِيجَابِهِ لِأَهْلِ الْحَقِّ الْجَنَّةَ، وَلِأَهْلِ الْبَاطِلِ النَّارَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ}. كَمَا حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} يَقُولُ: أَوَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْيَاءِ فِي ذَلِكَ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ، بِمَعْنَى: أَوَلَمَ يُبَيِّنْ لَهُمْ إِهْلَاكَنَا الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ مِنْ قَبْلِهِمْ، سُنَّتُنَا فِيمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِآيَاتِنَا، فَيَتَّعِظُوا وَيَنْزَجِرُوا. وَقَوْلُهُ: (كَمْ) إِذَا قُرِئَ (يَهْدِ) بِالْيَاءِ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِيَهْدِ. وَأَمَّا إِذَا قُرِئَ ذَلِكَ بِالنُّونِ (أَوَلَمْ نَهْدِ) فَإِنَّ مَوْضِعَ (كَمْ) وَمَا بَعْدَهَا نَصْبٌ. وَقَوْلُهُ: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوْلَمَ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ مَنْ قَبْلِهِمْ يَمْشُونَ فِي بِلَادِهِمْ وَأَرْضِهِمْ، كَعَادٍ وَثَمُودَ. كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ} عَادٌ وَثَمُودُ، وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يُرْجِعُونَ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِي خَلَاءِ مَسَاكِنِ الْقُرُونِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِهَا الَّذِينَ كَانُوا سُكَّانَهَا وَعُمَّارِهَا بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُمْ لِمَا كَذَّبُوا رُسُلَنَا، وَجَحَدُوا بِآيَاتِنَا، وَعَبَدُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً غَيْرَهُ الَّتِي يَمُرُّونَ بِهَا فَيُعَايِنُونَهَا، لِآيَاتٍ لَهُمْ وَعِظَاتٍ يَتَّعِظُونَ بِهَا، لَوْ كَانُوا أُولِي حَجًا وَعُقُولٍ، يَقُولُ اللَّهُ: (أَفَلَا يَسْمَعُونَ) عِظَاتِ اللَّهِ وَتَذْكِيرِهِ إِيَّاهُمْ آيَاتَهُ، وَتَعْرِيفِهِمْ مَوَاضِعَ حُجَجِهِ؟.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوْلَمَ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالنَّشْرِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، أَنَّا بِقُدْرَتِنَا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ الْغَلِيظَةِ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ جُرُزٌ: إِذَا كَانَتْ تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْجُرُوزُ: الَّتِي لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِهَا شَيْءٌ إِلَّا أَفْسَدَتْهُ، نَظِيرُ أَكْلِ النَّاقَةِ الْجُرَازِ كُلَّ مَا وَجَدَتْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لَلْأَنِسَانِ الْأَكُولُ: جَرُوزٌ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: خَبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا... وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّيْفِ إِذَا كَانَ لَا يُبْقِي شَيْئًا إِلَّا قَطَعَهُ: سَيْفٌ جُرَازٌ، فِيهِ لُغَاتٌ أَرْبَعٌ: أَرْضٌ جُرُزٌ، وَجَرْزٌ، وَجِرْزٌ وَجُرْزٌ، وَالْفَتْحُ لِبَنِي تَمِيمٍ فِيمَا بَلَغَنِي. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {الْأَرْضُ الْجُرُزُ} أَرْضٌ بِالْيَمَنِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَرْضٌ بِالْيَمَنِ. قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} قَالَ: أَبْيَنُ وَنَحْوُهَا. حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثَلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَنَحْوَهَا مِنَ الْأَرْضِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} قَالَ: الْجُرُزُ: الَّتِي لَا تُمْطِرُ إِلَّا مَطَرًا لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا، إِلَّا مَا يَأْتِيهَا مِنَ السُّيُولِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} لَيْسَ فِيهَا نَبْتٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} الْمُغْبَرَّةُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} قَالَ: الْأَرْضُ الْجُرُزُ: الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، لَيْسَ فِيهَا نَبَاتٌ، وَفِي قَوْلِهِ: (صَعِيدًا جُرُزًا) قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَلَيْسَ فِيهَا نَبَاتٌ وَلَا شَيْءٌ {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَنُخْرِجُ بِذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي نَسُوقُهُ إِلَيْهَا عَلَى يَبُسْهِا وَغِلَظِهَا وَطُولِ عَهْدِهَا بِالْمَاءِ زَرْعًا خَضِرًا، تَأْكُلُ مِنْهُ مَوَاشِيهِمْ، وَتَغَذَّى بِهِ أَبْدَانُهُمْ وَأَجْسَامُهُمْ فَيَعِيشُونَ بِهِ (أَفَلَا يُبْصِرُونَ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ بِأَعْيُنِهِمْ، فَيَعْلَمُوا بِرُؤْيَتِهِمُوهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي بِهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيَّ أَنْ أُحْيِيَ بِهَا الْأَمْوَاتَ، وَأَنْشُرُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَأُعِيدُهُمْ بِهَيْئَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا بِهَا قَبْلَ وَفَاتِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَيَقُولُونَ) هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، لَكَ: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: مَتَى يَجِيءُ هَذَا الْحُكْمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَمَتَى يَكُونُ هَذَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لَنَا يَوْمًا أَوْشَكَ أَنْ نَسْتَرِيحَ فِيهِ وَنَنْعَمَ فِيهِ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ فَتْحَ مَكَّةَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: وَيَقُولُونَ: مَتَى يَجِيءُ هَذَا الْحُكْمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، يَعْنُونَ الْعَذَابَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ كَانَ جَعْلَ اللَّهُ لَهُمُ التَّوْبَةَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} عَلَى مَا قَالَهُ مَنْ قَالَ: يَعْنِي بِهِ فَتْحَ مَكَّةَ، لَكَانَ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَابَ عَلَى بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَنَفْعِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ صِحَّةُ مَا قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَفَسَادُ مَا خَالَفَهُ. وَقَوْلُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يُعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي الَّذِي تَقُولُونَ، مِنْ أَنَّا مُعَاقَبُونَ عَلَى تَكْذِيبِنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِبَادَتِنَا الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ} يَقُولُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ: يَوْمَ الْحُكْمِ، وَمَجِيءِ الْعَذَابِ لَا يَنْفَعُ مِنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ إِيمَانُهُمُ الَّذِي يُحْدِثُونَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} قَالَ: يَوْمَ الْفَتْحِ إِذَا جَاءَ الْعَذَابُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (يَوْمَ الْفَتْحِ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنُصِبَ الْيَوْمُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ} رَدًّا عَلَى مَتَى، وَذَلِكَ أَنَّ (مَتَى) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّى حِينُ هَذَا الْفَتْحِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟ ثُمَّ قِيلَ: يَوْمُ كَذَا، وَبِهِ قَرَأَ الْقُرَّاءُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} يَقُولُ: وَلَا هُمْ يُؤَخِّرُونَ لِلتَّوْبَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ. وَقَوْلُهُ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} يَقُولُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأُعْرِضْ يَا مُحَمَّدُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، الْقَائِلِينَ لَكَ: مَتَى هَذَا الْفَتْحُ، الْمُسْتَعْجِلِيكَ بِالْعَذَابِ، وَانْتَظَرْ مَا اللَّهُ صَانِعٌ بِهِمْ، إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ مَا تَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَمَجِيءِ السَّاعَةِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ السَّجْدَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةِ.
|